لعلّ إحدى أبرز الانتقادات المتكرّرة للسّاحة السّياسيّة التّونسيّة الحاليّة ، منذ بعثرة الخارطة القديمة ، هو كونها لازالت ساحة عجائز. و هذا النّقد ، أو بالأحرى التّذمّر، ليس حكرا على تونس فقط ، بل نجده في مصر مثلا و في الدّول اللّتي تشهد حراكا احتجاجيا في كافّة أصقاع العالم. و من باب الشّعاراتيّة ، يحلو لنا أن نرفع دائما و نقول "ثورة شباب يحكمو باسمها الشّيّاب". لا يقدر أحد على إنكار هذا الواقع ، فحتّى مرور سليم عمامو عبر الحكومات الثّلاث الأولى كان مجرّد عمليّة إشهار إعلامي -حسب تقديري- ، بينما ظلّت قواعد الأحزاب التّقليديّة الشّبابيّة (بكافّة أطيافها) مجرّد ذراع تنفيذي ، و بروباغانديّ يصل حدّ التّقديس أحيانا للزّعماء القدامى. و هذا ما لاحظناه في مؤتمرات كافّة الأحزاب اللّتي تركت للشّباب فرصة الاندفاع النّقدي أحيانا ، و من ثمّ الإلتفاف القطيعي حول القيادات القديمة نفسها و دخول هؤلاء الشّباب كحطب في حسابات القوّة الدّاخليّة. هذا كمعاينة لواقع عشناه و يتواصل لحدّ الآن ، في كافّة ألوان الطّيف السّياسي التّقليدي.
الإشكال ، حسب رأيي ، يكمن أساسا في المنطق المختزن وسط الخطاب النّقدي المتذمّر في ذات نفسه. فأن تقول و تعيد أنّ السّياسيّين لم يعطوا للشّباب مكانه (و غير السّياسيّين من إعلاميّين و غيرهم من الأطراف المحيطة بعالم السّياسة ، و ردّ على السّاحة الثّقافيّة ، و السّاحة الفنّيّة و حتّى السّاحة المشيخيّة الدّينيّة و السّاحة الرّياضيّة) هو اعتراف بأحقّيّة هؤلاء "العجائز" و القدامى بإعطاء و منح مكان للشّباب ، و هو تكريس لسلطتهم الرّمزيّة. فهذا الخطاب يحمل في نفسه نقيض مطلبه الأساسي (التّشبيب) لينزلق إلى تبرير للأمر الواقع. كما لو أنّ الحلّ يكمن في أن يتنازل العجائز من تلقاء نفسهم و بالحسنى. بينما ننسى أنّنا إزاء شيء يعتبر مكوّنا أساسيّا في ثالوث الأهواء ألا وهو السّلطة (الثّالوث هو المال و السّلطة و الجنس). ليس من السّهل ، أو المنطقي أن يتنازل شخص ، أمضى الرّدح الكبير من عمره يجمع السّلطة الرّمزيّة. و لا يجب التّغاضي عن أنّ القناعة بامتلاك الرّؤية الصّائبة هو اللّذي جعل هؤلاء "القدامى" يستطيعون الثّبات في نضالهم و مراكمة السّلطة الرّمزيّة كلّ هذا الزّمن. و لا يجب التّغاضي كذلك عن قوّة حجّة "الخبرة" و "العمر" و "الإختصاص" في أيديولوجيا الحوكمة و السّياسة طوال القرنين الفارطين.
لن يهدي أحد مكانه ، أو ما يعتبره موقعه و مكانه و حقّه ، هكذا للشّباب فقط لأنّهم شباب. و من الطّبيعي أن يقاوم القدامى و أن يستميتوا في المقاومة للثّبات في أماكنهم ، هذا إن لم يكن لربح مواقع أوسع و أشمل. هذا ما يجب أن يستوعبه الشّباب الملتزم سياسيّا ، مهما كان نوع و درجة التزامه. قبول الشّباب الإلتصاق بالقدامى و المزايدة في الوفاء (كما نرى في ما يسمّى باليسار التّونسي مثلا) يحرمهم و يحرم البلاد من إبداع و تجديد في الفكر و العمل السّياسي هي في أمسّ الحاجة إليه. و حسب رأيي ، تقع مسؤوليّة مستقبل البلاد على وعي هذا الشّباب بما يجب عليه فعله لخير العباد. لابدّ الآن من شجاعة و رباطة جأش كي يفتكّ الشّباب ، دون تذمّر أو مسكنة أو تسوّل ، حقّه في تسيير اتّخاذ القرار. لابدّ أن يعيد الشّباب النّظر النّاقد إلى نفسه كي يعي حجمه الحقيقيّ و قوّته الحقيقيّة ، و يتجاوز خلافات الذّوات المنتفخة للزّعماء التّائهين اغترارا بزعاماتهم الضّيّقة. في كلمة : لابدّ للشّباب ألاّ ينتظر أحدا للمبادرة ، لا فقط بإجهار صوته ، بل و لأخذ زمام القرار السّياسيّ.